تابع – سورة المنافقون
محور مواضيع السورة :
ثم يرسم لهم السياق صورة فريدة مبدعة تثير السخرية والهزء والزراية بهذا الصنف الممسوخ المطموس من الناس ، وتسمهم بالفراغ والخواء والانطماس والجبن والفزع والحقد والكنود. بل تنصبهم تمثالا وهدفا للسخرية في معرض الوجود :
«وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ. وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ. يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ. هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ. قاتَلَهُمُ اللَّهُ! أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟» ..
فهم أجسام تعجب. لا أناسي تتجاوب! وما داموا صامتين فهم أجسام معجبة للعيون .. فأما حين ينطقون فهم خواء من كل معنى ومن كل حس ومن كل خالجة .. «تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ» .. ولكنها ليست خشبا فحسب. إنما هي «خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» .. لا حركة لها ، ملطوعة بجانب الجدار!
هذا الجمود الراكد البارد يصورهم من ناحية فقه أرواحهم إن كانت لهم أرواح! ويقابله من ناحية أخرى حالة من التوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم :
«يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ» ..
فهم يعرفون أنهم منافقون مستورون بستار رقيق من التظاهر والحلف والملق والالتواء.
وهم يخشون في كل لحظة أن يكون أمرهم قد افتضح وسترهم قد انكشف. والتعبير يرسمهم أبدا متلفتين حواليهم يتوجسون من كل حركة ومن كل صوت ومن كل هاتف ، يحسبونه يطلبهم ، وقد عرف حقيقة أمرهم!! وبينما هم خشب مسندة ملطوعة إذا كان الأمر أمر فقه وروح وشعور بإيقاعات الإيمان .. إذا هم كالقصبة المرتجفة في مهب الريح إذا كان الأمر أمر خوف على الأنفس والأموال! وهم بهذا وذاك يمثلون العدو الأول للرسول - صلى اللّه عليه وسلم - وللمسلمين :
«هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ» ..
هم العدو الحقيقي. العدو الكامن داخل المعسكر ، المختبئ في الصف. وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح. «فَاحْذَرْهُمْ» .. ولكن الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - لم يؤمر هنا بقتلهم ، فأخذهم بخطة أخرى فيها حكمة وسعة وثقة بالنجاة من كيدهم (كما سيجيء نموذج من هذه المعاملة بعد قليل) ..
«قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» ..
فاللّه مقاتلهم حيثما صرفوا وأنى توجهوا. والدعاء من اللّه حكم بمدلول هذا الدعاء ، وقضاء نافذ لا راد له ولا معقب عليه .. وهذا هو الذي كان في نهاية المطاف.
( يتبع )
|