ننتظر تسجيلك هـنـا

مجلة امل عمرى الاصدار الثانى لعام 2020
عدد مرات النقر : 2,504
عدد  مرات الظهور : 87,372,788
مركز رفع منتدى امل عمري
عدد مرات النقر : 3,028
عدد  مرات الظهور : 87,372,865
تقسيط بطاقات سوا بكل الفئات
عدد مرات النقر : 879
عدد  مرات الظهور : 69,415,342
منتديات أمل عمري الأدبية ترحب بكم  .. كلمة الإدارة


الإهداءات



موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم يوم أمس, 11:27 PM
..عبدالعزيز.. غير متواجد حالياً
لوني المفضل ÝÇÑÛ
 رقم العضوية : 668
 تاريخ التسجيل : Apr 2018
 فترة الأقامة : 2620 يوم
 أخر زيارة : اليوم (05:41 PM)
 المشاركات : 1,197 [ + ]
 التقييم : 22410
 معدل التقييم : ..عبدالعزيز.. has a reputation beyond repute..عبدالعزيز.. has a reputation beyond repute..عبدالعزيز.. has a reputation beyond repute..عبدالعزيز.. has a reputation beyond repute..عبدالعزيز.. has a reputation beyond repute..عبدالعزيز.. has a reputation beyond repute..عبدالعزيز.. has a reputation beyond repute..عبدالعزيز.. has a reputation beyond repute..عبدالعزيز.. has a reputation beyond repute..عبدالعزيز.. has a reputation beyond repute..عبدالعزيز.. has a reputation beyond repute
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي العبقُ الفردوسيُّ !






لم يألف الأشم والخضم –وإن وجد بهما بعض الأنس والسرور والبهجة- ، وظل الحنين ينازعه إلى مغاني طفولته ، وملاعب صباه !
لم يطق الصبر أكثر ، وفي إحدى الليالي ركب سيارته ويمم وجهه شطر مغاني طفولته ، وعندما تعالى الضحى كان في الشارع الرئيسي الذي عن يمينه المنازل والمغاني .
انعطف يمينًا عند أول منعطفٍ يؤدي إلى وسط الحي الذي كان يقطنه ، ثم ترجل من مركبته ، وبدأ السَّيْرَ متمهِّلًا ، متأمِّلًا ، متذكِّرًا ساعات أجمل وأنقى عهد !
عاج على منزله وخطى خطوتين إلى الداخل ، ثم وقف ونظر إلى نافذة المطبخ المطلة على الفناء الضيق ، التي يُخبِّئُ بعض لعبه فيها لعلوِّها ، ثم مضى إلى يساره مباريًا الحائط الأبيض القصير–الذي يفصل بين الفناء والممر- ، الذي يجعلونه مرمىً لكرة القدم .
دلف إلى الفناء الواسع ذي الحيطان المطلية باللون الأبيض ، والأسقف المرصوفة بالخشب المطلي باللون الأزرق والأبواب الخشبية المطلية باللون البني .
أجال ناظره في الفناء الواسع فعن يمينه المطبخ ، ثم باب خشبي يؤدي إلى غرفة النوم والصالة ، والمجلس الذي يقيم فيه مآدب النجاح ، والمناسبات السعيدة ، وضيافة أصحابه ، ثم العريش الشمالي والغربي ، الذي ينام فيه في فصل الشتاء ، ليبهج ناظره وسمعه بالبرق والرعد ، والغيث المنهمر ، والعصافير التي تخرج من أوكارها في التجويف الخشبي بأعلى العمود .
يليها غرفة التلفاز ، ثم المستودع ، ثم الدرج المؤدي إلى السطح .
وقف أمام غرفة التلفاز ودموعه تنهمر انهمارًا اخضلت منها لحيته ، وقال : أأدلف إلى ماذا ؟! أإلى مكانٍ أقوى من الأحبة ؟! أم إلى ذكرى تضطرم لم تهدأ ولم تخمد ؟! أأدلفُ إلى بقايا الطهر والنقاء وصفاء القلوب والرسوم المتحركة التي لم تبرح القلب ولا الذاكرة إلى الساعة ؟!
ما زال ذلك الطفل الذي يندمج مع (أكوالا - ليدي - سالي - سلفر - كابتن ماجد – فارس الفتى الشجاع - ...) لم ييفع فكيف له أن يشب أو يشيخ أو يهرم ؟!
أما كان جسده يرتجف وقلبه يبكي دون أن تبكي عيناه خشية وحياء ممن حوله ! وآن له الآن إفاضة -دون حياء أو خشية- ما يعتلج بقلبه !
أواه أواه أواه ! مات قلب الطفل في ذلك العهد ، وطويت مشاعره ووريت تحت الأثلة وبين أكناف سالي وليدي وجزيرة الكنز وأكوالا وفارس الفتى الشجاع وكابتن ماجد و... !
أيها الكهل : أما نظمت قصة سالي في قصيدة ، فأين هي الآن ؟! هل طويت كما طوي الكثير مما كتبته وأفضته في مراحل مختلفة من عمرك ؟!
أواه لو عاد بي العمر قليلًا إلى عهد الشباب الغضير لأعدت نظمها من جديد واحتفظتُ بها ! ولكنها أيام مضت لا تؤوب ولا تستشير ولا تتريث !
توقف قليلًا ثم صعد الدرج ، ومضى إلى السطح وجال فيه ودموعه تنهمر على وجنتيه !
بجانب الباب عن يمينه مصطبة كان يلوذ بها كثيرًا عندما ينتابه الشجن ، وفي سقف الدرج كان يضع طنفسة ويمضي بعض الوقت فيها يتأمل ، ويسرح مع أحلامه وأمانيه !
صعد المصطبة ، ونظر إلى بيوت الحي ، ثم ثبَّتَ بصره على أحدها ، وقال : عندما تَهُبُّ الرياحُ أتَعَرَّضُ لها ، لعلها تَأْخُذُ بعضًا من الحنين الذي أ َنْهَكَ قلبي ، لتُلقيه في قلبكِ ، لتَشْعُري بما أُكَابدُهُ من الحنين إليكِ، فتعطفي وترأفي !
نزل وجال في السطح المقسم إلى أربعة أقسام ، وجال في الغرف الثلاث فيه ، ووقف عند الغرفة الأخيرة المطلة على الشرق ، وتبسم عندما تذكر عندما كان يضعُ العلمَ في آخر الزاوية منها ، وكاد يسقط -لولا أن الله سلم- !
نزل من السطح ، ونظر إلى الغرف الثلاث عن يمينه ، ثم دلف إلى الغرفة الأخيرة التي تؤدي إلى الفناء الخلفي (الغربي) ذي الثلاث نخلات ، وجوافة ، وكينة –التي يصطاد الطيور التي تأوي إليها- ، وتينة ، وخم دجاج وحمام ، وغرفة مسقفة بالطين والجريد !
تبسَّم ، عندما تذكر عندما غاب عن الحي بضعة أسابيع ، ثم عاد ، فاستقبله أترابه بالحفاوة والترحيب وأهدوه بعض ألعابهم !
كان يجول في المنزل ، ودموعه تنهمر ، والحنين تصطخب أمواجه مع كل ذكرى ، ولم يستطع نظم بيت ، ولو استطاع لاحتاج لمائة بيتٍ –على الأقل- لوصف ما يعتلجُ بقلبه !
خرج من الباب الأحمر الكبير ، الجنوبي الغربي ، واتجه إلى المنزل الذي أودع قلبه فيه ، ودلف من الباب الأخضر ، واتجه إلى شجرة الليمون في آخر الفناء الشمالي الغربي ، ووقف أمامها ، وقال : لئن نالت الأيام من قوتي ، وصحتي ، وشبابي ، فلن تنال من قلبي الذي استعمره هواكِ ، وسيظلُّ على توقده ، قلب الطفل (عزُّو) الذي أحبكِ بكل جوارحه ، والذي ما في جسده جارحة ، إلا وتحن إليكِ حنين الحبِّ للفتكِ بالقلوب ، واللصِّ الخفيِّ (الحنين) للتسلل إليها لحرقها وإرماضها !
هبتْ نسمةٌ خفيفةٌ حركتْ أغصانها الريانة ، فقال : حُكمَ على من صبا بدنف القلب ، وإرماضه ، وسهر الليل ، ومخادنة بلابل الحنين ، أفما في هذا كفارة له ، ورأفة به ، وحصوله على الخروج من ضنكِ النأي ، وإدناف الحنين ، إلى بستان الوصل ، ورياض اللقاء ، وقصور السرور !
آهٍ لو تعلمين عِظَم حبي لكِ ، وحنيني إليكِ ، فوالله ما صليتُ لله صلاةً إلا وكنتِ من أعز الأماني التي أرفعها إليه ، وأسأله إنجازها ! فليت لكِ عيناي وقلبي ، فتري بأي عينٍ أنظرُ إليكِ ، وبأي قلبٍ أجلُّكِ !
قطف ليمونة ، ونظر إليها مليًّا ، وتبسمَ عندما تذكر إطلالتها عليهم وهم يلعبون تحتها ، فقال : عندما تطلين علي وأنا بجانبها أقطف منها واحدة ثم آكلها فأجدها حلوة لذيذة لأني كنت أنظر إليكِ ولو شربتُ السم الزعاف في تلك اللحظة لاستطبته واستعذبته لأني أراكِ أما حين تختفين عن ناظري يصبح الكون على اتساعه أضيق علي من سَمِّ الخياط .
نقل ناظره إلى الباب الأخضر المطل على جهة الشمال ،الذي كانتْ تطلُّ عليهم منه على استحياء ، وقال : (مَصِيْرُ الأَحْيَاء ِاللقَاءُ) !لم يَصْدُقْ قَائِلُ هذه العبارة ! فقد طال انتظاري ورفع أكفي ، ولم نلتقِ ولا حتى عن طريق الصدفة ، وقد مضى أكثر العمر ولم يبق إلا أقله ، وإني لأنتظر ذلك الحلم على أحر من الجمر ، فإن تحقق فالسلام والحنين عليكِ وإليكِ إلى يوم يبعثون وموعدنا في أرض المحشر !
خرج من المنزل ، وهو يقول : لم أُشْعلِ النَّارَ ليلةَ غدوُّكِ ، بل أطفاتُ النيران الموقدة ، ورميتُ الغربَان الناعبة ، وقتلتُ البوارح !
سار بخطى وئيدة وعيناه على منزلهم الذي لا يبعدُ عن منزل شجرة الليمون إلا بضعة أمتار ، واتجه إلى حائطه المطلي باللون الأبيض ذي الأبواب البيضاء–الذي قطنه وهو في السابعة من العمر-ووقف أمام عمود الإنارة الذي يجلسون تحته ليلعبوا ما يحلو لهم من ألعاب ، أو يتناولوا الشاي في ليالي رمضان ، أو يمضوها في السمر والأحاديث ، وقال : بم أُجيْلُ ناظري ؟! ولم أُجْري قدميَّ ؟! ولمن أَبُثُّ الشَّكوى ، ومَنْ أُنَاجي ؟! وعَمَّنْ أَبْحَثُ ؟!
أآتي لأجيل الطرف في حيٍّ تَبَدَّلَ وظَعَنَ عنه أهْلُهُ وأُلاَّفُهُ ؟!
أم آتي لأستعيد ذكرى الأحبة الذين تفرَّقوا في ربوع الأرض ؟!
أم آتي بعدما أكهلتُ لأتودَّعَ من الربوع العزيزة ؟!
أم آتي لإيقاد الحنين وذرف الدموع ؟!
أأعود بعد ستٍّ وعشرين سنة لأجول في المنزل الذي قطنته وأنا في السابعة من العمر ؟!
أأعود لأجول في الربع المحيل دون إخوتي وصحبي ، يقودني حنينٌ لا تهدأُ بلابله ولا يسكن زخاره ؟!
أأعود لأستعيد ذكريات الطفولة ؟! أم لأجمع شتات قلبي وأعوام أنسي وسروري ؟!
مضى مباريًا المنزل ، ثم انعطف بعده يمينًا–من جانب الباب الأحمر الكبير- ، وجال في الحي وبين البيوت التي أعيد بناء بعضها وترميم وطلاء بعضها الآخر ، فقال : أيتها المنازل ، التي أضحتْ أطلالًا : أين أهلكِ الذين شادوكِ –فيما مضى- لبنةً لبنةً ثم حجرًا حجرًا ؟!
أين من عمروكِ بأخلاقهم قبل أن يبنوكِ بسواعدهم ؟!
أين من تعالتْ ضحكاتهم ، وملأ عَرَصَاتَكِ نقاؤهم ، طهرهم ، براءتهم ؟!
تغيرت المعالم ، وتبدلت المنازل ، ومضى أهل الحي وحل غيرهم ، فأين أهلكِ وأصحابكِ ؟!
وايم الحق لو نطقتْ لقالتْ : لبوا نداء من لا يرفض نداؤه ولا يعصى أمره ، فتبدلوا بالمنازل الفيحاء الأجداث الضيقة –جعلهم الله ممن مُدَّ لهم مَدَّ البصر- ، وإن لم تحرم على الأرض أجسادهم فلم يبق منهم غير عجب الذنب !
أجال ناظره في منازل الحي ، ثم ثبَّتَ بصره على منزلهم–المطلي باللون الأزرق ذي الأبواب الرصاصية- المطل على الشرق والجنوب الذي فيه نشأ ، وفي عرصته درج ، ووقف أمامه–وقوف الصفيِّ على قبر صفيِّه- مطأطئ الرأس ، شجي القلب ، ودموعه تنساب على وجنتيه وقدماه مسمَّرتان لم يَسْتَطِعِ الدُّخُولَ إليه للذكرى التي أَرْمَضَتْ قلَبَهُ ، وأحْرَقَتْ كَبِدَهُ !
وقفَ خارجه ينظرُ إلى النخلات الثلاث التي تُطاولُ الحائط ، وشجرة البرتقال بجانب الحظار التي له معها ذكرى وأي ذكرى ، ثم قال : لم أَحُلْ ولم أَنْسَ ، وليس الأمرُ بيدي لأتَّخذَ قراري ، ولكنه قرارٌ في النهاية سألقاه أطال الزمنُ أم قَصُرَ !
أذكرُ ولادتكَ في الليل ، أذكركَ عندما كنتَ تحبو وتدرجُ وتتعثَّرُ ! أذكرُ مضيَّكَ معي إلى مغنى الصبا ولعبنا ولهونا !
أذكرُ ذكرى ! بل سهامًا تُغرزُ في قلبي ، وبركانًا يُحرقُ كبدي ، وحِمْلًا يُثقلُ كاهلي !
لم يَستطعِ المكُوثَ أكثر ، فنظر إلى الدرب الذي عن يمينه المؤدي إلى مغنى الصبا ، وملتقى أنداده ، وأترابه ، ثم نقل ناظره إلى الدرب الذي عن شماله المؤدي إلى المسجد ، ومنازل أنداده الآخرين ، أطال التأمل ، ثم قال : هل يُلامُ الكَهْلُ في كَثْرَةِ عَوْجِهِ على مغاني صباه ، ليُجَدِّدَ أكسجين روحه ، ويَجْمَعَ أَشْتَاتَ قَلْبِهِ ، ويَزُوْرَ ضَريْحَ أُنْسِهِ وسُرُوْرِهِ؟!
مضى صوب المنزل المطل على مغنى الصبا ووقف أسفل النافذة ، وقال :


(البحر السريع)

لغُرْفَةِ الإيْقَادِ آتيْ ضُحَىً
علِّي أرى مَنْ فيْهِ سُلْوَاني

فلا أرى إلا رُسُوْمًا وَهَتْ
تَشْكُو ضَنَى نَأْيٍ وهُجْرَانِ

أيتها الشرفة : تلك الأقدام كلَّتْ ! والخطوات السريعة توانتْ وتباطأت ! والجسد الفتي أكهل وبدأ يشيخ !
أنبئيهم يا شرفة الإطلالة العذبة والإنصات لأحاديث المبقلين أسفلكِ ، وحدثيهم أيتها الشمس المائلة للغروب عن شغفي بكِ وبأصيلكِ وطيوركِ العائدة إلى أكنانها وشدوها الفاتن .
مضى إلى مغنى الصبا ، وجال بين الأثل المتناثر فيه ، ثم مضى إلى الأرجوحة ملتقى أترابه ، وموطن مرحهم ، ووقف أمامها ، ونظر إلى السلسلتين الحديديتين اللتين شُدَّتا بها ، وقال : تاقت نفسي إلى العبق الفردوسي أيام الأعياد ! الشتاء ! رؤية الأقمار والشموس ! إصاخة السمع لمزامير داوود ! فقد سئمتُ زخم التقدم ! هجير الحضارة ! ضجيج الآلات والسيارات ! ضوضاء السأم !
أيتها الشمس المتربعة في كبد السماء : ذلك الطفل الذي كان يعدو يسبق خطواته ليشاهد ما تبقى من الرسوم المتحركة وخاصة (كابتن ماجد وليدي) تثاقلت أقدامه ، وتدانتْ خطواته وضعف جسده !
أيها البدر المكتمل : ذلك اليافع الذي كان يسامركَ ويبثُّكَ الوجد والحنين إلى من ملكتْ قلبه قد شاخ جسده ووئدت أمانيه وآب وحيدًا يتعكز الوحدة ويسامر ذكرى الأحبة !
اتجه إلى الأثلة العتيقة المتأصلة في قلبه ، وضم بيديه ما استطاع منها وضغط صدره على جذعها الضخم وملأ رئتيه من عبق الطهر والنقاء ، ثم أسبل ناظره ، وقال :


(البحر الطويل)

أيا أثلةً كانتْ سرورًا وبهجةً
أغيثي فؤادي بالوصال أثيبي

ولُمِّي لِدَاتَ الطُّهْرِ بَعْدَ تَشَتُّتٍ
لنَلْبَسَ أَثْوَابَ الّلِقَاءِ القَشِيْبِ

ونلهو كما كنا صباحًا وفي الدجى
ونشدو لأيام البراءةِ أوبي

رفع رأسه إليها ، ونظر إلى أغصانها التي كان يتسلقها مع أترابه فيما مضى ، ويكسروا بعض أغصانها الرقيقة ليحركوا به الشاي ، وقال : هنا ابتدأت رحلتي ، وهنا انتهتْ وما بينهما إلا أعوامٌ قليلةٌ تخللها الأنس والسرور ، والشجى والسقم ، والحنين والنأي !
أيتها الأثلة ، يا معلم الصبا ، وملتقى الأتراب : إني أرقب الأحبة يظعنون ، فأحاول العدو إليهم والمضي معهم ، فتتسمر قدماي في الأرض لا أستطيع براحًا ، وسيأتي اليوم الذي تنطلقُ فيه قدماي دون قيدٍ ، وأمضي إلى حيث مضى الأحباب
كنتُ أخشى وها قد أتى اليوم الذي أخشاه والذي أصبحتُ فيه أرنو من خلف سحب الكهولة إلى عهد الشباب الغضير والصبا الغض ، وأسفح دموع الشجى والحنين إليهما !
مضى إلى المسجد ونظر إلى بابيه المطليين باللون البني –وبعدها طليا باللون الرصاصي- وعند ضبة المفتاح شرخ يدخلون أيديهم منه لفتحه .
وقف أمامه مُطرقَ الرأسِ يعتملُ في صدره الندم على ما بدر منه وما آثره ، وقال : ها هو الطفل الذي ضمَّهُ عطفاكَ فحفظَ القرآن في رحابكَ ، وبدأ طلبه للعلم في رياضكَ–الذي لم يستمرَّ فيه- ، يقف أمامكَ كَهْلًا والندم يعيثُ في قلبه على ما فرَّطَ فيه ، وتنكَّبَ سبيله !
ها هو الطفل الذي يخرجُ من حلقة تحفيظ القرآن الكريم ، في الساعة الرابعة والنصف في الصيف ، وفي الساعة الرابعة في الشتاء ، مفعمًا بالحيوية والنشاط والبراءة ، يعدو مسرعًا يُسابقُ خطواته إلى المنزل ليُدْركَ ما تبقى من الرسوم المتحركة ، ويتناول الشاي مع بعض الحلويات ، أثناء المشاهدة والحماسة تعلوه كأنه بينهم ، قد ثقُلَتْ خُطاه ، وأوهاه تصرُّمُ السنين ، وأثقلَ كاهله الندمُ والخشيةُ ! فهل تحقُّ له العودةُ إلى رحابكَ الطاهرة وهو المثقلُ بأدران الشباب وأرجاس الأدب ؟!
دلف إلى داخله ونظر إلى الباحة التي كانت فيما مضى رملًا، يرش بالماء ، وعن يمينه الدرج المؤدي إلى السطح ، ثم السقف الذي بني أسفلها ووضع فيها براداتا الماء !
وقف خاشعًا مطأطئ الرأس والندم يعيث بقلبه ، وهو يذكر أولئك الشيوخ الذين منهم من هرم ، ومنهم من قضى نحبه ، فبكى بكاءً اخضلَّتْ منه لحيته ، وقال : كان أمامي -في فتوتي- سبيلان -وبعد هذا العمر أُقِرُّ- أني سلكتُ الأخس الفاني ، وزهدتُ في النفيس الباقي ! فلحى الله ذلك السبيل ، ولحى الشيطان وما نفثه على لساني ! ولحاه على ما أزَّني إليه وصدَّني عنه ! ففي هذا خُسرٌ وضياعٌ ! وفي ذاكَ فلاحٌ ونجاةٌ ! وشتَّانَ والله بين السبيلين !
دخل إليه وصلى ركعتين ، وأطال سجوده ، وقال : ربِّ : تنكبتُ المحجَّةَ ، وضللتُ السبيلَ ، واستهواني الشيطان إلى نفثه وغيِّه ، فاغفر لي ما سلف ، وانتشلني من غمرة الغي ، وجُدْ علي بتوبةٍ تنقذني بها مما أنا فيه من سُدُورٍ فيما لا نفع فيه ولا نجاة !
أجال ناظره في سواري المسجد وكأنه يرى الأطفال معه متكئين على سواريه أو حيطانه يقرؤون القرآن ويحفظون آياته والمدرس في مجلسه يلحظهم ويأتونه زرافاتٍ ووحدانًا لتلاوة ما حفظوه على مسمعه !
خرج من المسجد بخطواتٍ متثاقلة ، ومضى إلى البقعة الخالية جنوبه ، وتذكر أصحابه وأترابه ، وأحاديث السمر في ليالي رمضان ، وقال : بربكم أعيدوني إلى مغاني الطفولة مع أترابي ، واجعلوني أبقى مدى العمر فيه لا أبرحه ! لا يعتريني هم الغد وشجنه !
يمم وجهه شطر الشارع العام ، ووقف أمامه قليلًا ، وهو ينظرُ إلى شجر البرسوبس بين الرصيفين ، والأثلة العتيقة التي تطل على الشارع العام من جهة الشمال –التي كان يلعبُ تحتها ، ويتسلق أغصانها مع أترابه- ، وقال –وله مغزاه- : أحشاءٌ تلتهبُ ! قلوبٌ تحترقُ ! أحبابٌ تُرْتَهَنُ ! أجسادٌ تَفْتَرِقُ ! نواقيسُ تُقْرَعُ ! جَوْزَاءُ تَتَّقِدُ !
ركب سيارته ، ونظر إلى البقعة البعيدة التي ضمَّتْ أحباب قلبه ، ثم مضى ، وعيناه لا تريمان عنها ، وعندما وصل إليها ، وقف طويلًا ينظرُ إلى بابها ، متذكرًا ما مضى ، متأملًا فيما سيأتي ، ثم قال : أخشى ذلك الباب ، لقلة الزاد ، ووعورة السبيل ، ولا عمل لدي يؤهلني لرحمتكَ ، ورجائي بعفوك ورحمتكَ التي وسعتْ كل شيءٍ هي ما يتقدَّمني !
ثم رفع رأسه إلى السماء ، وقال : والذي لا إله إلا هو ، ما انسلخ يومٌ من عمري ، إلا وشعرتُ بضآلة الدينا ، وتفاهة أمرها ، وأنها العجوز المتصابية ، المثقلةُ بالتجاعيد التي تخفيها بالحليِ والحللِ التي ترتديها !
ترجل من مركبته ، ووقف عند الباب ، وقرأ الدعاء المأثور ، ثم قال : أنحنُ نبكي على رحيلهم (شجىً وأسىً) ، أم نبكي على أنفسنا (شفقةً ، ولأنَّا على الإثر ماضون) ؟!
دلف إليها وجثا بين القبور مطأطئ الرأس ، ذارف العينين ، ورفع أكف الضراعة لله أن يتغمدهم برحمته ، ويرضى عنهم ، ويغيثهم بالروح والريحان ، والمغفرة والرضوان !
أطال الـجُثُوَّ والتَّضَرُّعَ، ثم نهض وبدأ المسير بخطى وئيدة بين الرِّجامِ الخرساء –الواعظة أيما وعظٍ- ، وبقلبه يعتلج ما يعتلجُ، وقال : للفقر العمل والسعي الدؤوب !
للسقم العلاج في المشافي –بإذن الله- !
للابتلاء الصبر ، والتضرع لله عز وجل !
فما للفقد المضني ، والرحيل الأبدي ؟!
ثم جثا عند أحد القبور ، وأخذ بعض التراب ، وفركه ، وتركه ينسل من بين أصابعه ، ثم قال : علام خروجي من المنزل ؟! وإلام تقودني خطاي في ظلمة الدجى ؟!
أمضي صوب موطنٍ ضمَّ أجساد أحباب قلبي ! وتقودني إليه خطاي -حنينًا- أما الأرواح ، فهي برحمة الله في روحٍ وريحانٍ !
أنسوا ببطن الأرض أكثر من ظهرها ! وألفوا الأموات أكثر من الأحياء ، ووجدوا من رحمة الله ، ورضوانه ، وروحه وريحانه –بإذنه- ما طمأنهم ، وتوقهم إلى تعجيل النشر !
نسوا القلوب التي أخذوها ، والأجساد التي أرمضوها ، والدموع التي سكبوها ، والتباريح التي أضرموها !
لا أكتبُ –وايم الله- إلا شجى على رحيلهم ، وحنينًا للقائهم ، وتعزيةً لنفسي فإني ماضٍ على الإثر ، وغادٍ اليوم أو غدًا على تلك الحفيرة !
ثم رنا إلى جهة المشرق ، وأطال الرنو ودموعه تنسكبُ شجىً وحنينًا ، ثم قال : كسرتَ قلب الكهل ، وأثقلتَ حمله ، وأوهيت جلده ، ووطَّأْتَ لسنابكِ الشجى في قلبه ، وشاخَ قلبه وجسده في كهولته !
توأم روحي : والواحد الأحد : بكيتُكَ وما زلتُ أبكيكَ ، وما رأيتُ أبًا يمسكُ يد ابنه ، أو أخًا يعانقُ أخاه إلا وجاشتْ بقلبي الأحزان ، وهملتْ عيناي ، وخفقتْ جوانحي حنينًا مرمضًا لا يَكفُّ عني ولا يقضي عليَّ !
سجد وأطال السجود ، وقال : اللهم يا من رحمته وسعتْ كل شيء ، يا من يتطاولُ إبليس غدًا لينالها –لعلمه ويقينه بسعتها- ، أسألكَ برحماتكَ المائة ، وبكل خفقة رحمة في قلوب البشر وغيرهم ، أن ترحم أحباءنا وأصفياءنا ، وأن تسكنهم الفردوس الأعلى برحمتكَ !
ثم خرج وركب سيارته ، ومضى وهو يقول : سبحان الحي الدائم الكبير المتعال ، سبحان الحي الدائم الكبير المتعال ، سبحان الحي الدائم الكبير المتعال !

الموضوع الأصلي: العبقُ الفردوسيُّ ! || الكاتب: ..عبدالعزيز.. || المصدر: منتديات أمل عمري

أمل عمري

منارة الناسك , نبض الطاولة , نبض الطاولة , نبض الطاولة , فعاليات , فعاليات , حصريات , إيقاع الشعر والنثر , شرفة الذائقة , أسراب الهذيان , مدونات , حكواتي , هودج الأنثى , الرياضه , عيادة الأمل , ومضات الألبوم , همسة العدسة , دروب اليوتيوب , دروب اليوتيوب , دروب اليوتيوب ,





 توقيع : ..عبدالعزيز..



جزيلُ الشكرِ ، ووافرُ الامتنانِ للمصممة المبدعة سُقْيَا .

قديم اليوم, 01:15 AM   #2


الصورة الرمزية برّاق
برّاق متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1
 تاريخ التسجيل :  Jul 2017
 أخر زيارة : اليوم (01:20 AM)
 المشاركات : 57,064 [ + ]
 التقييم :  379060
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Steelblue

اوسمتي

افتراضي



أستاذي الرائع عبدالعزيز التويجري أحد الذين أدين لهم بالكثير من الفضل لتعليمي كيف أكتب وكيف احضر

وحضورك بهذه القصة الهدية الأثمن لـ إحتياجي لذلك كان هنالك أشياء " ي عزيز" تسرق من قوتي أعيُني لكيلا أراها ولكي أبقى بإحتياج ذهبت ذات مساء للنجاة من عقوبة ذنبي تخيّل كل هذه الإشياء إبتسمت مما جعلني في صدمة أنها تبتسم وغير آبه بما يحصل لي
كما أنني لا أعلم لما أجعل من صفحات تواصلي معك متنفس

ي صاحبي وددت لو تكونت على هيئة اشخاص كُثر لـ نستهلكك اكثر فلا يوجد للأرتواء مكان وأنت تهطل زدنا مطراً وحلق بنا نحوك

هناك الكثير من الشغف في داخلي
" لقصص الحلقة والمزرعة والحيّالة والمدرسة والملعب وأخيراً
" كيف هي سارة " وكيف هو مهب الريح
و سـ اقول سراً خلاف ماذكرت انا بهذا الحديث أسقطتني عمداً بطريقك لـ أراني

ياصديقي
لم تعد المشاعر جميلة لـ أدونها بصفحاتي
فـ أدنى تواجد لي تشتته عذوبتك وقد اكتشفت مؤخراً أن هنالك أشياء اجمل
كـ أنت مثلاً وكـ أن اضع معرفك ببداية تواجد وأختمه بـ انت لنخرج بشيء مبهر
ويشار إليه بعذوبته

همسه _
بكل يوم آراك اهمس لنفسي بمتى ستتعلمي ألا تتعلقي

اعتذر عن إقتحام القصة قبل إتمامها وفتح المجال للردود

مودتي


 
 توقيع : برّاق



موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 18 ( الأعضاء 8 والزوار 10)
, ‏, ‏, ‏, ‏, ‏, ‏, ‏

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:20 PM


Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education